لا مكـان للفـرح

التقينا فتكسرت بيننا الحدود، تآخينا في زمن الوفاء به مفقود

أحببته وكان حباً في الله نشأ وتربى في بيت من بيوت الله ..

كان صغيراً
ولا تسألني عنه الآن !!

ومضت الأيام سريعة
في كل يوم أتعلم منه، يتعلم مني، نبحث عمن يعلمنا ..

وفجأة ..
تغيرت الأوضاع في البلد، وازدادت سوءاً مع الأيام ..
فقرر أبوه الرحيل
تدخلت في الأمر، حاورت .. ناقشت .. جادلت، وبذلت الرأي مع العمل ..
وكان الرحيل هو القرار الأخير ..
ودعته وأنا أكفكف دموعي، ونشيجي يقتل كلمات الوداع، في صدري ..
وكان يوم الوداع يوماً حزيناً ..

رحل وكلماته في سمعي ..
عبدالله لا تنس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
هذه الكلمات كانت لي زاد ..
حثتني على طلب العلم ..
التحقت بعدة دروس ..
حملت أوراقي وأقلامي تتبعتها حيثما كانت ..
شعرت بالسعادة، وزيادة الإيمان ..
وتزداد سعادتي كلما تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) .
وأقول هنيئاً له!!

وتمضي الأيام، لكنني لم أنساه، وكيف أنساه ؟!!
فقرآنٌ تلوناه، وكتابٌ قرأناه، ومسجدٌ سجدنا فيه لله، كل هذه تذكرني إياه ..

كم تذاكرنا زماناً يوم كنا سعـداء
بكتاب الله نتلـوه صباحاً ومساء

سهرت تلك الليلة، أمسكت القلم اكتب له رسالة ..
حدثته عن أخباري، وسألته عن أخباره ..
وركض القلم في يدي لا يتوقف، ومداده على الورق يسطر ..
يا ترى ماذا يسطر ؟
وهل القلم هو الذي يسطر ؟
أم أنها أحاسيس ومشاعر، سبقت الرسائل، بل سبقت كل ما هو جديد في عالم الاتصال ..
سطرت بيدي موعظة عن !!
هادم اللذات ..
ذكرته وعظته ..
وختمت رسالتي بتاريخ تلك الليلة، الثامن عشر من شهر شعبان ..
وأرسلت الرسالة مع أول مسافر ..
وبعدها أخذني التفكير، لماذا هذه الرسالة ؟
أهي موعظة .. أم رسالة ؟
لم أترك لنفسي فرصة للندم، فقد مضت الرسالة وهو الآن يقرأها ..

لم يكن من عادتي الذهاب إلى مسجد أويس القرني صباحاً ..
ولكنني وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام المسجد ..
أوقفت سيارتي ..
سرت بخطواتٍ بطيئة ..
أرفع قدماً وأتمتم بينهما ..
فهذا الشارع مشيت فيه أنا ومحمد ..
وفي نهايته هناك دار محمد ..
نظرت إليها متأملاً، وكأنني استرجع الذكريات الجميلة ..
وأمام باب المسجد وقفت أتأمل زواياه، فهنا حلقتي وهناك حلقته ..
رآني الطلاب، ركضوا نحوي، وتنادى الجميع ( الأستاذ عبدالله ) ..
سلمت عليهم، مازحتهم وضحكت معهم ..
تجولت بنظري في جميع أرجاء المسجد، تساءلت في نفسي: أين سليمان ؟ مالي لا أراه في حلقته ..

بحثت عنه إنه يذكرني بالعزم والإصرار، والمسارعة إلى الخيرات ..
فهو لم يتجاوز السادسة عشر، وحج مع محمد ..
رغم اعتراض الجميع عليهما ..
لا زلت اذكرهما عندما انطلقا إلى منى ..
لم أرَ سليمان، وهممت أن أسأل عنه زملائه ..
وقبل أن أسأل، رأيته يأتي من بعيد ..
أنكرته، أنكرت حاله، اقبل نحوي، وكأن على ظهره حملٌ ثقيل، ألقى بنفسه على كتفي، أخفى نشيجه وأنينه، أرسل دموعه على صدري .. كأنه طفلٌ صغير، جذبته بقوة، واتجهت به إلى السيارة ..
سكتُ ولم اسأله، وسكت هو وظل يبكي ..

تركت لنفسي التفكير، يا ترى ماذا حدث له ؟
هل ذكرى محمد تؤرقه ؟
أم مصيبةٌ ألمت به ؟
أوقفت سيارتي عند مسجدي، طلبت منه النزول ..
رفض وكنت أظنه سيفرح ..
فأجبته لما أراد ..
قلت سأذهب إلى مكان يحبه ..
إلى مكان يحتضن ذكرى محمد ..
اتجهت نحو البحر ..
وكلما اقتربت من المكان، كلما زاد في البكاء ..
خفت وعدت أتسائل ما الذي حدث ؟
لقد ظننت أن هذا المكان سيجعله سعيداً ..
أوقفت السيارة، نزل متثاقلاً ..
ضحكت ضحكة االخائف القلق، وداعبته قائلاً :
أتتذكر هذا المكان جيداً ؟
فهمهم بكلماتٍ ممزوجة بالبكاء: ليتك اخترت غيره ..
فعادت ابتسامتي خوف وقلق ..
إذاً ما بالك تبكي ؟
قال جاءني العم حسين وقال: لقد حدث لمحمد حادث .. ولم يكمل من شدة البكاء ..
أخفى رأسه بين ركبته ..
أطبقت بيدي على كتفيه ..
هززته، حركته، صرخت به ..
مات
مات
مات
إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله
وصرخت به مرةً أخرى: قم .. قم ..
أرسلت العينان الدموع حارة ..
لقد مات محمد ..

حزمت أمتعتي، واتجهت نحو محطة النقل الجماعي ..
وفي أول رحلة صعدت متجهاً نحو قرية محمد ..
وصلت القرية ليلاً، كاد السائق أن يتخطى مدخل القرية ..
صرخت به توقف .. ها هو مدخل القرية ..
وقف، ولكن في أرض رملية ..
حاول الخروج لكنه لم يستطع ..
حاولت معه ولكن جميع المحاولات لم تنجح ..
طرقت باب دارٍ قريبة من الخط الرئيسي، وطلبت منه المساعدة ..
سألته عن والد محمد، لكنه لم يتعرف عليه ..
قلت: لقد مات ابنه في حادث سيارة، لكنه سكت ..
تسلل الفرح إلى قلبي، وشعرت أن الحادث إشاعة ..
ابتسمت لكن صوت طفل من داخل البيت انطلق ليحاصر آمالي التي انتعشت، ويئد أحلامي التي انبعثت من جديد، فيُذكر الأب الناسي، ويعيدني إلى دوامة الحزن ..

انطلق يصف لنا الطريق، وانطلقت دموعي تسيل على خدي ويخفيها الظلام ..
عاد الرجل إلى بيته، والسيارة لا زالت وسط الرمال ..
استجمعت قواي واستعنت بالله في دفعها حتى تمكن السائق من إخراجها، وسرنا على الوصف ..
وفي الطريق وجدنا رجل يعرفني وأعرفه، عانقني وعانقته، ثم صعد معنا السيارة، وراح يصف الطريق ..
اقتربنا من دار يتسلل من خلال جدارها المصنوع من القش ضوء خافت، أشار الرجل إليه قائلاً : ذاك دار والد محمد ..
أوقفنا السيارة وخرج الرجل ينادي، فخرج مجموعة لم أتبين أحداً منهم فقد كان الظلام ودموعي يحجبان النظر عني ..
قشعريرة سرت في جسدي، شعرت أن قدميي غير قادرتين على حملي، تملكتني رغبة شديدة في البكاء، حاولت كتمانه، نزلت من السيارة، ألقيت بجسدي بين أحضان والد محمد ولم استطع الكلام، راح يعزيني، أما أنا فقد كنت أحمد الله أن الظلام كان شديداً فلا يرى أحد دموعي ..
انتقلت من حضن إلى حضن، شعرت أثناء ذلك بحب عظيم ..
وشعرت من فرحهم الحزين بقدومي أن محمدا قد عاد إليهم ..
أما أنا فأيقنت بأني قد فقدت محمد !!

دخلت إلى الدار وهناك انبعث صوت حزين يخاطبنا من على بعد ..
عبدالله .. عبدالله .. مات محمد يا عبدالله ..
وقفت الكلمات في حلقي، ولم انطق، لكنها راحت تعزيني وتصبرني ..
الجميع يتحرك، فهذا يجهز سريراً لي، واخر يحضر الماء، الأب يدعوني لأجلس، يسألني عن أخباري، عن مدينتي، يريد أن ينتشلني من دوامة الحزن التي سكنت وجداني ..
قدموا لي الطعام، حاولت أن أتناوله لكن غصة الحزن تلفظه، حاولت ولكني لم استطع ..
أعلن الأب للجميع أن يتركوني لكي أنام، انصرفوا ووجهت بصري نحو السماء والتي زينتها النجوم وهمت مع الذكريات ..
شعرت بحركة في سريري، ألتفت وإذا علي الصغير يصعد بجانبي، يردد أبيات على سمعي :

صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعـل الله يرحمنـي

ويقول : لقد قلت لهم أن الأستاذ عبدالله سيأتي، احتضنته وقبلته وجلست استمع إليه ..
سلوت معه وهو يحدثني، مضى الليل، وارتفع صوت المؤذن يعلن عن صلاة الفجر ..
سألته : هل تعرف طريق المسجد ؟ نعم، كانت إجابته ..
انطلقت إلى المسجد وهو معي، وبعد الصلاة سألني : هل تريد أن ترى قبر محمد ؟ قلت له : نعم ..
سرنا حتى وصلنا قبر محمد، أشار إليه ..
وقفت أدعو له وبكيت بكاءً مراً، لم أشعر بمن حولي ..
عدنا إلى البيت وقد وعدني أن لا يخبر أحداً ببكائي، ووعدته ألا أخبر أحداً بأنه ذهب بي إلى قبر محمد ..
أشرقت الشمس، فأرسلت أشعتها الذهبية على كثبان الرمال الصفراء، فيظهر المكان يبث لي حديث الأمس عندما كان محمد يتنقل بين أرجاءه ..
فهذه حقيبته التي أودعها أوراقه ودفاتره ومذكراته ..
نثرتها بين يدي أقلب صفحات الماضي الجميل ..

وهذه رسائلي، بحثت فيها عن رسالتي الأخيرة، لكنني وجدت توقيعاً له على إحداها كتبه بخط يده ..(ما من رجلين تحابا في الله، إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه) حديث صحيح ..
ترقرقت دمعة في عيني وقلت: حتى في هذه سبقتني يا محمد .. وجدت رسائل كتبها لي، ولم يرسلها، جميعها تحثني على طلب العلم، تذكرني بعلماء الأمة ورحلتهم في طلب العلم، حشد فيها الكثير والكثير من القصص التي تشحذ الهمم ..
ووجدت بين الأوراق رسالة قد قطعت، فتحتها فإذا هي رسالتي الاخيرة ..
لم يقرأها فقد وصلت ومحمد في المستشفى ..

ومن بين بقاياه دفتر كتب عليه :

أقوال الأئمة الثقاة في اثبات الصفات لرب الأرض والسموات، جمع فيه أقوال الأئمة الأعلام في إثبات صفات الله عزوجل (والتي لا يثبتها الأشاعرة والمعطلة)، يحتوي على مقدمة بعثها لأحد مدرسيه في المعهد العلمي ليبين له فيها منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات لله عز وجل، بعد مناقشة حدثت بينهما في الصف ..
لفت نظري غرفة صغيرة من القش، لكنها لم تكتمل، تعجبت وزال العجب، عندما قالوا لي: بدأ محمد في بناءها ليخلو فيها بنفسه في رمضان ..

وقفت أتأمل المكان، سافرت إلى الماضي القريب، تذكرت كلماته :
هناك لا أجد الطعام فأصوم نهاري، ولا أجد ما يخفف حرارة الجو فأقوم ليلي ..
جسدي في الأرض أما روحي وعقلي فقد رحلا إلى البعيد، ولم أفق إلا على صوت حسن ابن عمة محمد يقول: السلام عليكم، رددت السلام ..
غمرني حسن بالمحبة وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، كان شاباً بسيطاً لم يغادر القرية من قبل ..
جلست معه فراح يحدثني عن محمد حديثاً عذباً جميلاً، أنصت له بكل جوارحي ..
كانت دموعه تغلبه أحياناً ويغلبها أحياناً أخرى، شعرت بأن حزنه على محمد عظيم، فقد تغيرت حياته من اللهو والعبث إلى الجد والالتزام والحرص على اتباع السنة، شعر مع محمد بحقيقة وجوده في الحياة، كان يأمل أن يغذ الخطى معه إلى الجنة، لكنه أضاء له الطريق ومضى هو ..
وصف محمداً، فكأنه يصف رجلاً من بقية السلف بعث فينا فترة من الزمن ثم رحل .. !!

وجدت ضالتي، هكذا قلت بعدما جلست مع حسن ..
في ظلام الليل، ذهب الجميع إلى فرشهم، وجلس حسن أمامي يحول بين وبينه الظلام ..
همست له : حسن كيف مات محمد ؟
سكت برهة وكأنه يمنع بكائه أن يفضحه وراح يتحدث ..
صلينا الفجر معاً وبعد الصلاة قررت أن أتأخر في الذهاب أما هو فقد كان متعجلاً، فارقني ودخل إلى داره، يوقظ النائمين ويمزح مع المستيقظين، جلس مع أمه وجدته تناول قطعاً من الخبز والحليب، كان وجهه يتهلل بالسرور، توجه نحو جده وأبيه منحهما الكثير من الحب والبر قبل أن يجمع أوراقه وأقلامه ويتوجه نحو الشارع الرئيسي ..
في الطريق نثر الابتسامة على كل من رآه ، وسابق الجميع بالسلام ..
التقى بمدرس التحفيظ في المدرسة الذي داعبه قائلاً : متى نزوجك يا محمد ؟
فأجاب : هناك .. هناك ويشير إلى الجنة ..
فقال : وهنا أيضاً ..
ولكن الإجابة هذه المرة كانت تعبر عن ألم دفين في قلب محمد، ومرارة عبرت عنها هذه الكلمات : باطن الأرض خير من ظاهرها ..

ومضى في الطريق يردد الأذكار حيناً، وحينا ينشد هذه الأبيات :

أخاف الموت والحشر العبادا **** فما عرفوا التواني والرقادا
وكان مسيرهـم لله دومـاً ***** وما يبغي الإله ومـا أرادا
فويـل للمفـرط إذ تمـادى ***** ولم يسرج لأخراه الجيـادا
وأهمل طاعة الرحمن حتى ***** حداها الله للعسرى فحـادا

وفي أثناء سيره التقى باثنين من رفقائه الذين قطعوا معه ما تبقى من الطريق ..
وعلى الشارع الرئيسي اجتمع عدد كبير من أبناء القرية ينتظرون سيارة تقلهم إلى المدينة ..
لم ينتظروا فقد توقفت سيارة نقل بضائع كبيرة ، قفزوا إليها في سرعة كبيرة ..
اختار محمد ورفقاؤه الجلوس في مؤخرة حوض السيارة وراحوا يتبادلون الأحاديث ..
مضت السيارة في الطريق والحديث يدور بين الجميع فمنهم من يضحك ومنهم من يبتسم، ومنهم من يتأمل، النشاط والحيوية، الصحة والشباب، والهمة العالية، والهموم المشتركة تجمع بينهم ..
وفجأة .. تنحرف السيارة يميناً في محاولة يائسة لتفادي الاصطدام بسيارة فقد سائقها التحكم فيها ..
ارتطام قوي، ارتفعت أجساد الطلاب في الهواء لتسقط على الأرض الخرسانية ..
انطلقت الصرخات ثم تبعتها الآهات والأنين ، وجرت الدماء على الأرض لتحكي فاجعة القرية الصغيرة في شبابها ..
سمعت الخبر فأسرعت نحو مكان الحادث ..
الآهات والأنين والبكاء تنبعث من المصابين ، أما السائق فقد قضى نحبه في الحال ..
بحثت بين الأجساد المتناثرة على الأرض عن محمد حتى وجدته ، يئن والدم ينزف من وجهه ورأسه ..
احتضنته بين يدي ورحت أصرخ إسعاف .. إسعاف .. محمد سيموت أدركوني ..
لحظات الانتظار كانت صعبة وحرجة ، أقبل والد محمد وأمه التي صعقت عندما رأت ابنها مضرجاً بدمائه ، يئن من شدة الألم ، لحظات ويالها من لحظات حزينة ..
بحثنا عن سيارة تنقله إلى المستشفى ..
تبرع صاحب سيارة نقل صغيرة وحمل محمد ومن كان في مثل حالته ، توجه نحو المدينة ، بدأ أنين محمد يخفت شيئاً فشيئاً حتى سكت ودخل في غيبوبة ..
وصلنا المستشفى بادرنا بنقله إلى الطوارئ ، تجمع الناس ينتظرون بينما الأطباء مع المصابين في الداخل ..
انتظرنا ساعات وكأنها أيام نتابع بالنظرات الداخل والخارج نسأل كل واحد ، نظن أن الجميع أطباء ، وأن الجميع لديهم الإجابة على أسئلتنا ..
خرج الطبيب سألناه عن محمد ، اطرق برأسه نحو الأرض ، وضعت الأم يدها على صدرها ، وفغر الأب فاه واتسعت عيناه ، وهمست أنا بصوت لايسمعه أحد : هل مات .. ؟
تحدث الطبيب فأنصتنا : لن تتضح حالته إلا بعد مضي ثلاثة أيام ، إن شاء الله تمضي لا نملك له الآن إلا الدعاء ..
ارتفعت الأكف إلى السماء ، ولهجت الألسن بالدعاء : اللهم اشفه ..
وضع محمد على السرير جثة هامدة ، آثار الارتطام على وجهه ورأسه ، لكنه يبدو كأنه نائم ..
الأم تجلس بجانبه تقبله بين لحظة وأخرى ، دمعتها لا تتوقف ، ولسانها لا يفتر ، تدعو له فهو بكرها وحبيبها وسندها ، لكم مازحها وداعبها ، وهاهي الآن لا تملك له ما يدفع عنه الألم ..
أما الأب فظل يصارع الدموع والبكاء ، يصبر الأم وكلما غلبته العبرات خرج قليلاً ثم عاد ..
وقفت أشاهد هذه المناظر وقلبي يتقطع آسىً وحسرة ..
تمضي الدقائق وكأنها ساعات وأنا أترقب وأدعو الله أن تمضي هذه الأيام الثلاثة حتى يتجاوز مرحلة الخطر ..
وفي تلك اللحظات التي سكن الحزن قلوبنا وبدت آثاره على وجوهنا ، كان وجه محمد مبتسماً يتهلل كأنه مذهبة يشع منه نور الإيمان ، كان في غيبوبة لا يشعر بأحد ، لكن يديه تتحرك ، نعم تتحرك ، فتارة تراه كأنه يقلب صفحات من كتاب ، وتارة أخرى كأنه يتوضأ للصلاة ، كانت حركة يده مثار دهشة الحاضرين ، لكنني لم استغربها فهكذا كان في حال صحته ، إما أن يقرأ ، وإما أن يكتب ، أو يتوضأ ويصلي ..
مضى اليوم الأول واليوم الثاني ولا زال محمد في غيبوبته، الحالة مستقرة هكذا يقول الأطباء، الآمال بدأت تكبر لدينا بأن يمضي اليوم الثالث ويتجاوز مرحلة الخطر، ليعود إلينا، ليمنحنا الحياة الجميلة والطيبة ..
بعد محاولات عديدة وبعد أن ظهر الإعياء على أم محمد قررت وبعد إصرار الجميع عليها أن تعود إلى القرية في اليوم الثالث، لم يبق في الغرفة معه أحد غيري، تلاشت آثار الحادث وبدا وجهه جميلاً يشع منه النور والطهر، أما يده فلا زالت في حركتها التي تظهر بين وقت وآخر ..
وعند الساعة الثانية عشر بدأت أنفاسه تتصاعد، صدره يرتفع وينخفض، فرحت قلت : سيفيق الآن إن شاء الله، حضر الطبيب، راح يقيس الضغط وضربات القلب، تغير وجهه بدت عليه علامات الانزعاج، ارتدت فرحتي خوفاً وقلقاً، لم أشاهد مثل هذه الحالة من قبل، صمت ورحت أراقب الموقف ..
رفع سبابته إلى السماء ثم وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدره، توقفت الأنفاس، سكن الصدر وشخص البصر، وضعت يدي على ساقيه الباردتين، أغمض الطبيب عيناه، ووضع الغطاء على وجهه ..
لقد انسلت روحه في هدوء وفارقت جسده ..
مات محمد ..

توقف حسن عن الحديث لحظات

أما أنا فقد انهمرت من عيني الدموع كانت باردة غسلت أحزاني وآلامي، إنها دموع الفرح، هنيئاً له هذه الخاتمة الحسنة، هنيئاً لتلك السبابة التي ارتفعت في الرخاء توحد الله، فارتفعت في الشدة وفي اللحظات الحاسمة ..

عاد حسن يتحدث : حضر القرية جمع غفير من المدن المجاورة للصلاة عليه وإتباع جنازته، خيم الحزن على الوجوه، وجرت الدموع وهي تودع شاباً أجمعت القلوب على محبته ..
مضى محمد بعد أن أضاء لنا الطريق، بعد أن صار حديثاً باسماً في المجالس ..
مضى لكن رسالته قد بلغت القلوب ..
لم أشعر كيف انتهى المجلس بيننا ؟

هناك بدأنا ..
ومن هنا سأبدأ وحيداً ..
يتردد بين جوانحي كلماته العذبة : عبدالله .. عبدالله .. طلب العلم فريضة على كل مسلم ..
وفي الجنة بإذن الله نلتقي ..

اللهم أجمعنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك إخواناً على سررٍ متقابلين ..
أغمضت عيني .. ونمت قريراً ..

أيها الأحبة ..
هذه قصتي مع محمد رحمه الله ..
ولي رجاء بأن تدعو لمحمد وللكاتب ..

قصة حقيقة

ليست هناك تعليقات:

موسوعة أروع و أفضل القصص